كلمة افتتاح الندوة الدولية حول اصلاح الاعلام العمومي
سيدي رئيس الحكومة
السادة الوزراء ورؤساء الهيئات الدستورية
السيدات والسادة ممثلي البعثات الدبلوماسية
السيدات والسادة ممثلي وسائل الاعلام والمجتمع المدني
السادة شركاء الهيئة
أصدقاءنا الأعزاء، ضيوف الهيئة من تونس وخارجها
أرحب بكم جميعا،
وإنه لشرف عظيم لي وللهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري أن تستضيفكم اليوم في هذه الندوة التي تتمحور حول الإعلام السمعي والبصري العمومي والتحولات التي يشهدها، ودوره في تعزيز المسار الديمقراطي الحالي.
واسمحوا لي في البداية أن أشكر جميع شركائنا، وخاصة مجلس أوروبا ومنظمة المادة 19 على الدعم الذي قدموه للهيئة على امتداد فترة الاعداد لهذه الندوة التي تتعلق بموضوع يتطلب منا الكثير من الاهتمام والمتابعة.
إن التفكير في مستقبل مؤسسات الاعلام العمومي في تونس يتطلب منا أولا العودة الى ماضيها. وفي هذا الصدد لا بد أن أذكر بأن النخبة السياسية، حرصت غداة الاستقلال، على إيلاء أهمية خاصة للقطاع السمعي والبصري واعتماده كوسيلة من أجل وضع أسس الثقافة الوطنية والمساهمة في التنمية . ومن هذا المنطلق فقد كانت مؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية سابقا أداة فعالة في تفعيل هذا المسار من خلال قيامها بالاعلام والتربية والترفيه.
لكن هذا الاهتمام من قبل النخبة سرعان ما تلاشى لتصبح هناك سيطرة تامة على وسائل الاعلام العمومي التي اصبحت على امتداد عقود في خدمة الحزب الوحيد الحاكم لا في خدمة المرفق العمومي.
وبالاضافة الى المراقبة الشديدة التي كانت تسلطها الدولة على وسائل الاعلام، تشكو هذه المؤسسات الاعلامية ايضا من ضعف البرامج وقلة الابداع والتجديد ، وبمرور السنوات أصبحت مؤسسة الاذاعة والتلفزة الحكومية آنذاك تعاني من صعوبات متعددة وفقدت تدريجيا مصداقيتها لدى الجمهور . وقد تفاقم هذا الأمر مع فتح المشهد السمعي والبصري أمام الخواص وظهور قنوات تلفزية واذاعية خاصة جديدة. ولا يجب أن ننسى أيضا، تعدد القنوات الفضائية وانتشار الانترنات وما يتيحه من امكانيات لا متناهية .
ومنذ حلول ثورة 14 جانفي 2011 وتركيز مسار الانتقال الديمقراطي وتحرير المشهد الاعلامي بدأت الأمور تتغير تدريجيا. ومع ما شهدته تونس من تحولات وتركيز الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري في ماي 2013 طبقا للمرسوم عدد 116 لسنة 2011 المؤرخ في 2 نوفمبر 2011، حان الوقت اليوم للقيام باصلاحات عميقة في قطاع الاعلام واعادة التفكير في نموذج أفضل لإعلام المرفق العمومي بهدف ضمان استمراريته ونجاعته.
ولابد ان يندرج هذا الاصلاح ضمن مشهد اعلامي يشهد تحولات عميقة تلامس الواقع المعيشي للمواطن وتؤثر بشكل كبير في السلوك الفردي والجماعي لمختلف المجموعات الاجتماعية.
وقد سرعت الديناميكية التي نشأت بعد ثورة 14 جانفي 2011 ، في اعادة التفكير في النموذج الأمثل لاعلام المرفق العمومي ودوره، خاصة وان عمل مؤسسات الاعلام العمومية لطالما كان في قطيعة مع حاجيات وانتظارات الجمهور بالاضافة الى ذلك فان نظام القيم الذي كان معتمدا في هذا القطاع ساهم في تقهقره وتراجع قيمته.
سيادتي، سادتي
ضيوفنا الكرام
إن الندوة التي ننظمها اليوم والأيام القادمة حول التحولات التي تشهدها وسائل الإعلام العمومية ودورها في دعم المسار الديمقراطي، ستمكننا من استخلاص الدروس من التجربة السابقة والحالية للإذاعة والتلفزة العموميتين والتفكير في التدابير اللازمة لترسيخ ثقافة حقيقية في خدمة المرفق العام والمواطنة في قطاع الإعلام في تونس.
وهذا يجعلنا نتساءل، في هذا السياق، عن أهمية إعادة التفكير في نموذج أفضل لوسائل الإعلام العمومي وطرق عملها، وفي أساليب دعم استقلاليتها ومهنيتها حتى تستجيب لحق المواطن في معلومة نوعية.
في النهاية، نؤكد على أهمية دور هيئة التعديل التي، حسب عبارة بيار جينو (Pierre Juneau)، الرئيس السابق للمجلس العالمي للإذاعة والتلفزة “يمكن أن تكون ‘حصنا’ آخر بين السلطة السياسية والإذاعة والتلفزة العموميتين”. وفي الواقع، فإن مهمتنا اليوم كهيئة تعديلية تتمثل في هذا المستوى في ضمان استقلالية القطاع ودعمه ومرافقته لتحقيق التزامه خدمة للمصلحة العامة.
ولكن، ومهما يكن من أمر، فإن وسائل الإعلام العمومي، مع ما تتطلبه من شروط تقنية وجمالية وديمقراطية، فإنها اليوم الوحيدة القادرة على الاستجابة للتطلعات الجديدة نحو الحرية والتعددية، بقطع النظرعن المجهود الذي يقدمه عدد من وسائل الإعلام الخاصة.
ويمكن لوسائل الإعلام العمومي، إذا ما تم تحديد مهمة واضحة لها وتوفير الموارد الكافية وتحقيق استقلالها الحقيقي عن السلطة، أن تضمن المصالحة مع الجمهور وانخراطها في المشروع المجتمعي من خلال التعبير عن ثقافة تحررت أخيرا وعن هوية وطنية تكون مبعثا للفخر.
أود أن أذكر هنا بما أكده بيار جونو في حديثه عن المرفق العمومي من أن “الكونية والتعددية والاستقلالية تمثل اليوم كما بالأمس، أهدافا أساسية للتلفزة والإذاعة العمومية، وأضيف لهذه المبادئ الثلاثة مبدأ رابعا مهما خاصة حينما تكون وسيلة البث العمومية تعمل إلى جانب إذاعات وتلفزات تجارية، ألا وهو مبدأ الخصوصية”.
ولتحقيق هذا الهدف الأسمى اليوم، لابد من القيام بإصلاحات عميقة داخل مؤسسات الإعلام العمومي. ودون شك فإن تحديد ماهية المرفق العمومي وإعادة هيكلته وتوفير الوسائل اللازمة لتسيير عمله، من شأنها أن تساعد على القيام بدوره خدمة للتنمية الاجتماعية بطريقة أخرى بعيدا عن تدخل الدولة أو مقتضيات السوق.
رئيس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري
النوري اللجمي